باب الخوخة، بفاس القديم، كان شاهدا على ميلاد موهبة فريدة في فن الفوتوغرافيا.
في هذا المكان رأى الفنان عزالدين العلمي النور أول مرة سنة 1948. قضى طفولة استثنائية، يجري ويلعب بين دروب وأسوار العاصمة العلمية للمغرب، إحدى أقدم المدن في التاريخ، حيث مازلت دروبها تخفي بين أبوابها إرثا تاريخيا ينعم بالخلود.
بدايات قصته مع التصوير الفوتوغرافي لم تكن مجرد صدفة، وإنما هي استمرار لهواية كان يمارسها والده عبد القادر منذ سنوات، ويقول عزالدين:” لقد قضيت طفولة في هذا الوسط المليء بالصور والأشرطة التي كان يحولها والدي إلى صور.. كنت مولعا بالتصوير منذ صغري”.
ويضيف العلمي في مقابلة معه، أن أولى الصور التي التقطها في البداية، كانت من آلة ألمانية الصنع “Dacora” وكان ذلك في مطلع الستينات، وكان عمره لا يتجاوز الـ14 عاما.
وفي هذا السياق يقول: “كنت التقط صورا للعائلة والحياة البدوية وكنت أصور أصدقائي في المدرسة.
وفي سنة 1967 تمكنت من استخراج أولى الصور التي التقطتها، بعدما اشترى والدي معدات ذلك… فكانت فرحتي هائلة لا توصف”.
ويرى أن في البداية، كانت الصور مجرد ذكريات توثق للحظات، لكن أدوارها اليوم تتجاوز ذلك بكثير. إذ أصبحت الصورة تستخدم في عدة مجالات، في الإعلانات مثلا، وفي مجال الفلاحة، حيث أصبح الفلاحون يعتمدون على الصور لتقييم تطور محصولهم، كما يتم الاعتماد على الصورة كذلك، في مجال البحوث العلمية.. مؤكدا على أننا “وصلنا إلى عصر لا يمكن الاستغناء فيه عن الصورة، فهي أصبحت تجنبنا العديد من الكوارث أو نستعد لها قبل حلولها، من خلال ما ترسله الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية”.
ويعتبر عزالدين الصور التي التقطها في بداية تجربته، صورا ذات قيمة خاصة، لأنها قاومت الزمن واختارت أن تحتفظ بلحظة مرت عليها سنوات عدة.. ويقول: ” حينما أشاهد تلك الصور، فإن ذاكرتي تسافر بي إلى زمن غير هذا الذي أعيشه الآن، أحس دوما بأن القصص التي عشتها في الماضي، لن تفارق ذاكرتي مادمت أحتفظ بهذه اللحظات معي”.
ويقول أن الصورة جعلته يسافر ويجول بين كل القارات، باستثناء أستراليا، التي لم يزرها بعد. ويفسر ذلك بأن شغف الفوتوغرافيا، يدفع الإنسان إلى البحث عن الحياة أينما وجدت.
قبل أن يضيف قائلا:” لقد صورت بورتريهات لأشخاص في جميع الدول التي زرتها، وفي بعض الأحيان ألتقط 10 إلى 20 صورة للشخص ذاته، عندما تكون الصورة غير مقنعة بالسنبة لي.
فالفوتوغراف الجيد بحسبه، هو الذي يبحث عن تلك اللحظة التي يزيل فيها الشخص المُصوَّر القناع عن وجهه، ويُظهر شخصيته ووجهه الحقيقي، “هنا يتجلى أمامك الإنسان الذي تبحث عنه، واللحظة التي قطعت آلاف الكيلوميترات من أجل التقاطها”.

ولم يخف العلمي سعادته بتزايد اهتمام الشباب بالفوتوغرافيا، لأن في اعتقاده، هذا الاهتمام سينقذ هؤلاء الشباب من الفراغ الذي قد يدفعهم إلى ممارسة سلوكيات انحرافية من جهة، ومن جهة أخرى فهذا “يجعلني مطمئنا على مستقبل الفوتوغرافيا في المغرب، على الأقل هناك من سينتصر للجمال مقابل القبح”.
جوابا عن سؤال: “ما الفرق بين صور الماضي وصور اليوم؟”.. يقول العلمي أن “هناك فرق كبير، فالصورة هي التي تبين لنا التغيرات التي حدثت بين الماضي والحاضر، كاللباس مثلا، والأسواق، وكذلك المعمار. ويوجد كذلك فرق على مستوى التقنيات، فآلات التصوير تطورت كثيرا، وساعد هذا الأمر في تطور الفوتوغرافيا وتزايد عدد الممارسين لها”.
شغف التصوير، يجعلني صبورا على غير العادة، منسجما مع المشهد الذي أرغب في توثيقه وأنتظر فقط اللحظة المناسبة، هكذا يصف العلمي اللحظات التي ينتظر فيها كثيرا لاصطياد المشاهد التي يتخيلها في عقله، ويقول أن هذا حدث معه حينما وجد فراشة الملكة في حديقة منزله فأراد تصوير هذا الضيف الجميل الذي زاره بدون موعد.
قبل أن يضيف بالقول:”الصورة التي التقطتها للفراشات دفعتني للبحث عنها، فوجدت أن موطنها هو كندا والمكسيك، حيث أنها تعيش في كندا وتقطع مسافة طويلة تستغرق فيها شهرين للوصول إلى المكسيك من أجل التوالد، وهذا النوع من الفراشات يعيش حوالي ثمانية أشهر، ونفس النوع من الفراشات الموجودة في المغرب، تعيش فقط شهر واحد”.
ويفسر ذلك بأن العلماء وجدوا أن طول عمر فراشات كندا، مرتبط بمرحلة البلوغ، إذ أن بمجرد هجرتها ووصولها للمكسيك تصل لمرحلة البلوغ، ثم تتزاوج هناك، وتعود لكندا، بينما التي توجد في المغرب فهي لا تهاجر من أجل التزاوج، فتبلغ بسرعة وتتزاوج بسرعة ثم تموت.
ويؤكد أن العلماء يجرون أبحاثا علمية على هذه الفراشات لمعرفة ما إذا كان تأخر مرحلة البلوغ، قد يطيل عمر الإنسان.
في السياق ذاته، يقول العلمي أن التصوير الفوتوغرافي دفعه كذلك للنبش في التاريخ، إذ أن اهتمامه بتوثيق العملات النقدية القديمة، دفعه للبحث في تاريخ المغرب القريب والبعيد.
ويختم الفنان الفوتوغرافي بأن كل شخص في هذا العالم، هو مصور بالفطرة، لكن زوايا الرؤية تختلف من شخص لآخر وهذه حكمة ربانية علينا استثمارها لإغناء اختلافاتنا ونظرتنا للحياة والوجود.



